الثلاثاء 19 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

الشاباك في أعمالنا الروائية

" الهليون نموذجا "

  • 00:17 AM

  • 2022-01-18

محمد نصار:

كثيرة هي المرات التي جرى الحديث فيها عن ضباط الشاباك، الذين تم زرعهم لسنوات طويلة في المدن والعواصم العربية والأدوار التي لعبوها هناك خدمة للغاية التي زرعوا من أجلها، منهم من كان في بيروت ومنهم كان في عمان وغزة قبل احتلالها وغيرهم في مدن وعواصم أخرى لا داعي لذكرها الآن، لكن قلة من الأعمال الأدبية - خصوصا الروائية- التفت إلى ذلك وإن كانت في مجملها قد مرت على الأمر مرورا سريعا.

في رواية الهليون ل "طلال أبو شاويش"، الصادرة عن مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والواقعة في نحو من ثلاثمائة صفحة، كان الأمر مختلفا، إذا جاءت الرواية خصيصا للحديث عن سيرة ضابط الشباك : دافيد هلين" الملقب بالهليون والذي تم زرعه في غزة أواسط الخمسينات ولمدة عشر سنوات تقريبا، توفي بعدها في ظروف غامضة، حيث عرضت الرواية جوانب مهمة من حياة تلك الشخصية، بشكل أوسع وأعمق مما كان يطرح في أعمال أدبية سابقة وهو ما أعطى مساحة للحديث عن حقبة زمنية كاملة، بكافة تفاصيلها ومجريات الأحداث فيها.

تبدأ الرواية بضابط الشابك "يوشع بن دافيد"، الذي خدم لسنوات طويلة في هذا الجهاز، أغلبها أمضاه في غزة، التي كانت فيها نهاية والده "دافيد هلين"، نهاية أرقته لسنوات طويلة وهو يبحث عن السبب الحقيقي لموت أبيه، هل مات بشكل طبيعي أم أنه قتل؟، سؤال دفعه للبحث في كافة الدوائر الأمنية عندهم ولكن من دون إجابة شافية، إلا أن بصيص أمل تراءى له، حين علم من أحد أصدقائه في الجهاز، بنقل أحد المقاومين السابقين في غزة " منصور" للعلاج في الداخل المحتل، بعد أن أعياه المرض وسمحت له اتفاقيات أوسلو وما نتج عنها من تفاهمات بالمرور

في الطريق إلى إيرز يسترجع ذكرياته في غزة وتعامله مع المعتقلين الفلسطينيين وقسوته البالغة في التحقيق معهم ، تذكر منصور والوحشية التي كان يعامله بها والصمود الخارق الذي كان يقابله به، فيما السؤال يرافقه الرحلة: هل من الممكن أن يستجيب منصور لطلبه او لرجائه حتى .. هل سينسى منصور عناده وصلابته وهو في ضعفه هذا ويخبره عن الكيفية التي مات بها والده، خصوصا أنه واحد من قلة كانوا يمسكون بكل الخيوط في حينه ويعرفون ما لا يعرفه حتى عتاولة أمنهم.

يصل إلى هناك، يقابل منصور داخل عربة الإسعاف على الحاجز، لكنه لا يخرج بشيء، يعود خالي الوفاض ويرجع منصور إلى غزة بنفس العربة التي جاء بها وبين اللقاء والنهاية تنهال أحداث الرواية

حيث البداية التي أشرنا إليها آنفا، مرورا بذكريات الطفولة التي مر بها هذا الضابط والتي كانت بائسة .. معقدة، انفصل فيها الأب "الهليون" عن الأم التي رفضت القدوم معه من فرنسا إلى تل أبيب، ثم حياته داخل الكيبوتس، بعيدا عن الأب الذي كان يتركه لفترات طويلة والخروج في مهمات أمنية لا يعرف شيئا عنها ومن خلال ذلك يعرض لنا الكاتب ما حدث في نكبة 48 وشتات العائلات والأسر، سواء إلى غزة أو لبنان وغيرها من المناطق، موضحا بطريقة ذكية، الكيفية التي انغرس فيها دافيد هلين " الهليون " في صفوف الفلسطينيين والعيش بينهم كواحد منهم، بدءا من زعمه الأول بان جميع أفراد أسرته قد غرقوا في البحر ليلة الهجوم على يافا ومكوثه وحيدا بصحبة الحاج " صالح" لفترة طويلة، ثم قراره أو قرار جهازه بالتوجه إلى لبنان، حيث التحق بأسرة فلسطينية، قابلها عند الحدود اللبنانية، زاعما أنه فلسطيني من يافا ينوي اللحاق بأهله في لبنان.

تنطلي الكذبة عليهم ويدخل معهم إلى هناك، يبقى لفترة طويلة بين العائلات الفلسطينية ويكون معها صداقات وعلاقات كواحد منهم، ثم تأتيه الأوامر مرة أخرى بالتوجه إلى غزة، فيرتب له سكان المخيم الرحلة إلى هناك عبر أحد المهربين، حيث يستقر به الأمر على شاطئ دير البلح ، ليكون أول لقاء له على شاطئها مع مجموعة من الجنود المصرين، يمسكون به ويقتادونه إلى مغفر الشرطة، حيث يحري عرضه على الضابط المسؤول هناك، والذي بدوره يوجه له عددا من الأسئلة الساذجة، ثم يأمر بالإفراج عنه وإيصاله إلى المكان الذي يريد.

طبعا لا يمكنني الإيغال في تفاصيل رواية ممتدة، لكني أردت أن أبرز من خلال ما تقدم صورة من صور الدهاء التي يمارسها العدو في تعامله الأمني معنا وما يقابلها من سذاجة تصل حد الهبل في التعاطي معها.

على كل حال وباختصار شديد، يصبح هذا الهليون عينا ثاقبة تجول في الأمكنة ترصد وتراقب وتبلغ، ويسقط الضحايا تباعا بسبه، كبار القادة في حينه كانوا ضحايا وجوده وجهوده، التي لم يلتفت إليها أحد، خدع الجميع بادعائه البساطة وانغماسه في أقذر الأعمال وأنتنها، حين كرس نفسه لنزح المراحيض بأثمان بخسة، ثم يأتي موته الذي فاجأ الجميع وظل مثار حيرة وذهول بعد انكشاف حقيقته.

الرواية كما أشرت واحدة من أبرز الأعمال، التي تعرضت لسيرة من هذا النوع، فعلى الرغم من شيوع هذه الظاهرة وقدرة العدو على توظيفها منذ سنين بعيدة وطويلة في الصراع ضدنا وكان لها مردودا مدمرا بالنسبة لنا، إلا أن حضورها في أعمالنا الأدبية كان ومازال نادرا، أضف إلى ذلك قدرة الكاتب على رسم تلك الشخصية بأبعادها النفسية والإيديولوجية وحتى في مظهرها العام، بشكل مقنع ومتطابق تماما مع الدور المنوط بها في الرواية، رغم توفر القليل من المعلومات حولها، كونها شخصية استخبارية لا يعرف عنها إلا ما شاهده الناس في حينه وهو الوجه الآخر منها أو المزيف، كذلك أبرز الكاتب بشكل ذكي طباع الغدر المتأصلة في تلك الشخصية والتي هي في الأساس نموذجا مصغرا لمجتمع بأكمله، فالرجل الذي آواه في يافا " أبو صالح" خدعه وكذب عليه والمخيم الذي احتضنه كواحد منهم في لبنان خدعهم وجيرهم لخدمته في العودة إلى عزة والمختار الذي احتواه في دير البلح أوقع به وسلمه لجهاز أمنه وأبو صالح الذي أمن له بيتا في مخيم الشاطيء وعطف عليه، نكل به وبأهل المخيم الذين احتوه، دون أن يرمش له طرف، حتى النورية التي أحب ابنتها وتزوجها، لم يقف كثيرا عند مقتلها ولم نجده في أي لحظة عبر تلك السنين الطويلةـ التي قضاها بينهم، يسأل نفسه عم يفعله وكأنه قد من صخر.

كذلك كان التفات الكاتب لجوانب مهمة من فترات الصراع، التي امتدت منذ عام 48 وحتى اتفاق أوسلو وخصوصا المقاومة المسلحة في غزة، بعد هزيمة عام 67 التفاتا موفقا، حيث جاءت بتفاصيل أدق وأوسع مما ورد في الكثير من أعمالنا السابقة حول هذا الموضوع وتحديدا في عرضه للبدايات الأولى التي تشكلت فيها خلايا المقاومة وطريقة أدائها وما أوقعت من ضربات، أو ما نالها من جراح، بشكل ينم عن اطلاع واسع على تلك المرحلة بما لها وما عليها.

صحيح أن هذا الجانب "من الصراع" جاء في بعض الأحيان على حساب الشخصية الرئيسية للرواية " الهليون"، التي هي الأساس الذي بني عليه العمل، إلا أنه كان ضرورة لازمة من ضرورات العمل، بحيث أنه لم يكن بحال بناء تلك الشخصية وإفراد مساحة أوسع لها، بعيدا عن الواقع المحيط بها وإن طغى عليها في بعض الأحيان.

في الختام أقول أن الرواية محل الدرس، رواية مميزة من حيث تطرقها لهذه القضية وبهذا الشكل المفصل، متكاملة البناء في عناصرها الأخرى، سلسة في طرحها، بحيث يستعصي على القارئ الفكاك منها، رغم مرارة المضمون الذي تعالجه والذكريات الموجعة التي تثيرها، خصوصا لأناس مثلي عايشوا فترات من تلك الحقبة وكانوا شهودا عليها.

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات